زلزال الأرض يوم القيامة

إذا زلزلت الأرض زلزالها: قراءة تأملية وعلمية وتدبرية في سورة الزلزلة وأبعادها الشاملة

إنّ من أعظم الصور القرآنية التي تهزّ القلوب وتوقظ الضمائر، تلك التي تصوّر لنا مشاهد يوم القيامة بكل ما تحمله من رهبة وفزع وعدل مطلق، وتفصيل دقيق لكل ما اقترفه الإنسان في حياته، مهما بدا صغيراً أو خفياً. ومن هذه الصور المذهلة التي وردت في القرآن الكريم تأتي سورة الزلزلة، التي افتتحت بمشهد زلزلة الأرض العظمى في يوم الحساب، وتُعدّ هذه السورة من السور القصيرة في عدد آياتها، لكنها شديدة التأثير في مضمونها ومحتواها، حيث تلخّص بعُمق وبأسلوب بلاغي بالغ القوة مرحلة مفصلية من مصير الإنسان، وهي لحظة الحساب والجزاء.

النص الكامل للسورة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)

وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)

وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا (3)

يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)

بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا (5)

يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)

فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)

وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

الزلزلة الكبرى: الحدث الأعظم الذي يُنبئ بالنهاية

تبدأ السورة بالفعل الشرطي “إذا”، الذي يحمل معنى التحقق المؤكد والوقوع الحتمي، وليس مجرد احتمال. وقوله تعالى: “إذا زلزلت الأرض زلزالها” يُنبئ عن زلزلة فريدة ليست كتلك التي نعرفها في الزلازل الجيولوجية الأرضية المعتادة، بل هي زلزلة مروّعة، شاملة، وعامة، تهزّ الأرض كلها في مشهد كوني رهيب. وهي الزلزلة المرتبطة بيوم القيامة، حيث تنتهي الحياة الدنيا وتبدأ الحياة الأخرى.

هذه الزلزلة تُميّزها الكلمة القرآنية “زلزالها” التي جاءت مضافة إلى الأرض، وكأنها الزلزلة الخاصة بها، التي اختُزِنت في جوفها منذ أن خلقها الله، لتنفجر في هذا اليوم العظيم بأمر ربها. الزلزلة في هذا السياق القرآني لا تمثّل مجرد حركة جيولوجية، بل تحوّل كوني تام يشمل البنية والزمان والمكان.

وأخرجت الأرض أثقالها: المعنى الدقيق والمركب

الآية التالية مباشرة، “وأخرجت الأرض أثقالها”، تمثل النقلة الثانية في المشهد المهيب. والأثقال هنا ليست مجرد معادن أو صخور أو حمم، بل تتضمن كل ما احتوته الأرض من البشر الذين دفنوا فيها عبر آلاف السنين، والأسرار التي احتضنتها، والمعاصي التي اقترفت فوقها، بل وكل شاهد صامت أصبح الآن ناطقًا.

ويشمل معنى “أثقالها” أيضًا الدلالة على نهاية دورة الأرض ككائن حي قائم بوظائفه؛ فهي الآن تُفرغ كل ما فيها وتتحرر من رسالتها الدنيوية. لقد أذنت الأرض أخيرًا في التعبير عن كل ما كان فيها من خفايا، ليُعرض أمام الله. وكل حركة صغيرة، كل كلمة، كل نيّة، وكل شعور حتى، سيصبح علانية.

دهشة الإنسان: “وقال الإنسان ما لها”

في هذه اللحظة الرهيبة، يكون الإنسان في حالة من الذهول والفزع التام، حيث يقول متسائلاً “ما لها؟”. واللافت أن الله لم يقل “الناس”، بل قال “الإنسان”، إشارة إلى الصفة الفردية التي تصاحب هذا الذهول، فالكل منشغل بنفسه، وكل إنسان يشعر أنه وحيد أمام حدث يفوق إدراكه وفهمه.

هذا السؤال الذي يُفجِّره الإنسان ليس للاستفهام الحقيقي بقدر ما هو تعبير عن الصدمة المذهلة والاضطراب الذهني الناتج عن مشهد النهاية، وهي لحظة نادرة لا تنفع فيها العلوم الأرضية ولا التفسيرات العقلانية.

الأرض تتكلم: “تحدث أخبارها”

ربما تكون من أكثر الآيات روعة ودهشة في السورة، هي قوله تعالى: “يومئذ تحدث أخبارها”. فقد خصّ الله الأرض بقدرة البيان، فستكون شاهدة ناطقة بعد أن كانت خامدة صامتة. وسيُصبح التراب والحجارة والرمال شهوداً على أعمال الإنسان، وتشهد بما فُعل فوقها من خير أو شر.

المثير في هذا المشهد هو تأكيد الحقيقة القرآنية بأن المادة ليست جماداً بل تحمل نوعاً من الإدراك بأمر الله، كما قال تعالى في مواضع أخرى عن الجبال والدواب والسماء. أما هنا، فالأرض نفسها ستتحدث، بأمر ربها، كأنها تنفذ توجيهاً إلهياً مباشراً: “بأن ربك أوحى لها”.

عرض الأعمال: تفكيك الآية “يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم”

في الآية السادسة “يصدر الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم”، يُشير النص القرآني إلى لحظة التمييز والتفريق، حيث يُبعث الناس متفرقين، جماعات جماعات، أو أفراداً منفصلين، بحسب أعمالهم ونيّاتهم ومصيرهم. هذه “الأشتات” تعبّر عن التفكك الذي يعكس العدالة الدقيقة في المحاسبة.

ولا يُعرض فقط العمل الخارجي، بل حتى الأعمال الخفية، والخواطر والنوايا، تُعرض في مشهد علني شفاف. كل إنسان يرى أعماله كأنه يشاهد فيلماً يوثّق كل ما فعله في حياته، بلا زيادة ولا نقصان، ولا تحريف أو كذب.

ميزان الذرة: الدقة المتناهية في الحساب

تبلغ قمة هذا المشهد في الآيتين الأخيرتين من السورة:

“فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره”.

هاتان الآيتان تضعان مبدأ العدل المطلق الذي لا يترك مجالاً للظلم أو الإغفال، حيث إنّ الذرّة، وهي أصغر جزء يُمكن تصوره، ستكون حاضرة في الميزان، ويرى الإنسان نتيجتها.

إنّ الإعجاز القرآني في هذه الآية يتجلى في اختيار كلمة “مثقال ذرة”، وهي عبارة تجمع بين المفهوم الفيزيائي الدقيق والبعد الروحي الأخلاقي. فالله عز وجل لا يغفل شيئاً، ولا يضيع عمل عامل، ولو كان بمقدار ذرّة.

أبعاد تدبّرية: دلالات روحية وأخلاقية عميقة

إن المتأمل في هذه السورة القصيرة يجد أنها تحمل أبعاداً ثلاثية:

1. بعد كوني: حيث ترسم صورة نهاية الوجود الأرضي المألوف، وتحوله إلى حالة كونية جديدة تبدأ مع البعث.

2. بعد قانوني-عدلي: حيث تُجسَّد العدالة الإلهية المطلقة التي لا يُفلت منها أحد.

3. بعد نفسي وأخلاقي: إذ تزرع في الإنسان الخوف من التفريط، وتحثه على مراقبة نفسه في كل أفعاله، حتى الصغيرة منها.

مقارنة علمية في مفهوم الزلزلة: الأرض بين العلم والنص القرآني

من حيث المقاربة العلمية، فإن كلمة “زلزال” ترتبط في علم الجيولوجيا بتحرّك الصفائح التكتونية أو اندفاع الحمم من باطن الأرض، لكنّ القرآن لم يتوقف عند هذه التفسيرات المحدودة، بل وسّع المعنى ليشمل تحولاً شاملاً في البنية الكونية.

وقد أظهرت بعض الدراسات الفلكية والفيزيائية أن الأرض تحمل في تكوينها إمكانات كامنة لانفجارات داخلية ضخمة، مما يجعل المعنى القرآني لزلزلة الأرض في يوم القيامة ليس بعيداً عن التصور العلمي من حيث الإمكان، لكنه يتجاوز العلم في الدقة والتوقيت، لأنه مرتبط بأمر إلهي خالص.

الجدول التالي يوضح الأبعاد المختلفة للآيات في سورة الزلزلة

الخلاصة: السورة التي تختصر يوم القيامة

سورة الزلزلة، على قصرها، تُشكّل وحدة تصويرية متكاملة للآخرة، وتُحفّز على محاسبة الذات، وتزرع في النفس الخشية من الله، والرجاء في رحمته، والحرص على العمل الصالح مهما كان بسيطًا. هذه السورة هي مرآة واضحة لحقيقة الإنسان بين الدنيا والآخرة، وتذكير دائم بأن الأرض، التي نعيش عليها ونظنّها ساكنة، تحمل في باطنها شهادة كبرى ستُقدّمها يوم الحساب.

المراجع:

1. تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن.

2. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار طيبة.